ما زلت أذكر ذاك الزمان وقد شهدت جيلين تقريبا ولم أبلغ من العمر عتيا ، وأكاد أجزم أننا نعيش زمن الاختزال بكل المعاني والمترادفات اختزال الثقافة واختزال العلم واختزال التاريخ واختزال الجغرافيا والمسافات وووو ..
مازالت ذاكرتي مؤهلة لتأخذني في رحلة ماتعة هناك حيث كانت الثقافة أكثر اتساعا وأغنى بمصادرها من زماننا الذي نعيش ، وكيف كنا نتلقف مجلة (العربي) يوم كان هناك مجلة للعرب وكان يرأس تحريرها د . أحمد ذكي وننهل منها علوما وآدابا ومعرفة ، بل انني أذكر الاستطلاع الذي أجرته في أحد أعدادها عن جزر القمر في يوم كنا لا نعرف ان للقمر جزرا ، ومن ثم نبحر في صفحات مجلة ( الفيصل) ونغوص في أتون القصة القصيرة والمقالة والشعر المشطور الذي كان يلامس شغاف القلوب ويهيم في الأرواح قبل أن يختزل الى كلمات متناثرة هنا وهناك لا رائحة لها ولا لون تحت ما أطلق عليه الحداثة وبأس الحداثة تلك ..
ثم نحجز قبل أيام في دور السينما لنشاهد رواية (القلب الشجاع) منقولة بأمانة بالحركة والصورة ونخرج وقد أرخنا لثورة الايرلنديين على المستعمر الانجليزي في ضمائرنا حين أبدع ميل جيبسون في أداء دور البطل القومي - يوم كان هناك أبطالا للقومية - .
وها نحن نعيش زمن (قوقلة المعلومة) ليصبح العم (Google) دارا للمعارف ولا أدري للأمانة سبب تسميته بمحرك البحث فهو لا يحرك ساكنا ، بينما غدت دور السينما التي كانت يوما مركز ابداع أضحت اليوم مرتعا للعري في زمن غدا فيه (اللمبي ) بطلا ، وفي الاستهبال فليتنافس المتنافسون ، ناهيك عن المجلات التي تزخر بها مكتباتنا ان كان هناك ما يسمى مكتبة ، وشلال دافق من صور الغلاف والمانشيتات المقززة على منوال ( الفنانة فتاكات : تطلقها مدوية أستخدم جسدي اذا تطلبت الشخصية ) أو ( لا أمانع من لعب أدوار الاغراء بما يخدم النص) !!
بل وطال الاختزال كل مفاصل الحياة الشخصية والعامة من التهاني والتبريكات بواسطة الرسائل القصيرة (SMS) فاختزلت المشاعر والاحاسيس الى ارقام وأكواد وفونتات ولوجوهات وتحولت كاميراتنا الى رقمية وأجهزة البث رقمية ، وجتى اسمائنا التي ولدت معنا تحولت الى ارقام وطنية ، وأرقام جامعية ، وأرقام وظيفية ، وأرقام عسكرية ..
واستبدلنا دار أبو حسين الصايغ بمسمى عقار 114/5 ، حتى الأمراض العصرية قلبناها حروفا فأصبحنا نتكلم عن (H1N1) و (HIV) بل وأ؟صبحت أمراض الكبد يطلق عليها A و B و C ..
قضايانا المصيرية اختزلت أيضا لتصبح فلسطين قضيتنا المركزية ملفا في جدول مباحثات ، ودفاعاتنا مقاطعة ، وتاريخنا الثري رواية من روايات ألف ليلة وليلة نتندر بها كلما ذكرنا حاضرنا المقزم بفعل الوهن والضعف .
حتى ملابسنا التي تستر عوراتنا لم تسلم من الاختزال فمن البنتكور الى البرموادا الى الميني الي الجيب كيلوت ..
كل ما سبق قابل للهضم ولو بعسر ، ولكن أن تختزل المباديء والقيم والمثل العليا لتصبح الخيانة وجهة نظر ، والاختلاس حذاقة ، والجرأة على الله حرية تعبير ، والرجولة ذكورة ليس الا ، فهو ما لم نعد نطيق نحن رواد الجيلين عليه صبرا .
إرسال تعليق